إيلي كوهين.. الجاسوس الذي ذهب إلى دمشق ولم يعد

قد لا يكون إيلي كوهين أهم جاسوس زرعه الموساد الإسرائيلي في العالم العربي، لكنه ربما يكون الأكثر شهرة. ارتبطت به عملية تجنيد معقدة، إذ زُرع في قلب المجتمع السياسي والاقتصادي والعسكري في سوريا، باسم مستعار لشخص سوري غير موجود وبهوية مزورة. نفذ كوهين المهمة المطلوبة منه في ظل تبدل الأنظمة من 1962 إلى 1965، من انهيار الوحدة إلى قيام نظام حزب البعث. ومنذ إعدامه في ساحة المرجة في دمشق في 18 مايو 1965، لا تزال إسرائيل تبحث عنه.

ارتبطت مهمة إيلي كوهين بحرب 1967 التي احتلت فيها إسرائيل مرتفعات الجولان، على خلفية معلومات قدمها حول الانتشار العسكري السوري على خط تلك الجبهة التي زارها أكثر من مرة لكشف التحصينات العسكرية، مما مكّن الجيش الإسرائيلي من احتلال المرتفعات. هذا الاستنتاج يبقى ضمن الدائرة التي صنعت منه أسطورة في عالم التجسس. فعوامل كثيرة كانت وراء سقوط الجولان، ليست أقلها الخلافات داخل قيادة نظام حزب البعث الحاكم، خصوصاً بين وزير الدفاع حافظ الأسد واللواء صلاح جديد، إلى حد اتهام الأول بإعطاء أمر الانسحاب من الجبهة قبل سقوطها.

لم يكن كوهين العميل الإسرائيلي الأول من العائلة. في العام 1961، اعتقلت السلطات اللبنانية شولا كوهين التي كانت تمثل أيقونة للموساد الإسرائيلي الذي خدمته بإخلاص لأكثر من 15 عاماً في بيروت. الفارق بينهما أن الأخيرة كانت يهودية لبنانية تعيش في بيروت، بينما الأول زُرع في دمشق من خلال عملية أمنية معقدة ومدروسة وذات مخاطر عالية. مع ذلك، نجح في مهمته ولو لوقت قصير. إذ، على الرغم من التدريب، وقع في الفخ مصادفة.

ولد إيلياهو بن شاؤول كوهين في الإسكندرية في 6 ديسمبر 1924. في العام نفسه، انتقلت عائلته من حلب في سوريا لتستقر في مصر، حيث تعلّم من دون أن يدرك أنه سيعود يوماً إلى الدولة التي تركتها عائلته طوعاً ويكون مصيره أن يُدفن في مكان سري قد يكون من أسرار الدولة السورية. أتقن إيلي العربية والفرنسية والإنجليزية والعبرية وتعلم في مدارس يهودية قبل دخوله مجال الهندسة في جامعة الملك فاروق من دون أن يكمل. عندما بلغ العشرين، انضم إلى منظمة الشباب الصهيوني اليهودي في الإسكندرية التي عملت على حث اليهود هناك للانتقال إلى دولة إسرائيل في العام 1948 بعد قيامها. وفي حين غادر والده وإخوته الثلاثة إليها عام 1949، بقي هو في القاهرة ليشارك في مهمات أمنية للاستخبارات الإسرائيلية.

من أهم العمليات التي شارك فيها، تفجيرات ضد مصالح أميركية ويهودية هدفت إلى إفساد العلاقة بين مصر والولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً بعد ثورة 23 يوليو 1952، وانقلاب الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر. الهدف الثاني كان تخويف اليهود وحملهم على الانتقال إلى إسرائيل. لكن هذه العمليات ما لبثت أن انكشفت في يوليو من العام نفسه ليقع إيلي كوهين مع آخرين في قبضة أجهزة الأمن المصرية، وحوكموا تبعاً لقضية أطلق عليها اسم (لافون)، نسبة إلى وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك بنحاس لافون الذي اتهم بإعطاء الأوامر لتنفيذها. هذه العمليات كانت سبباً أساسياً في تشكيل جهاز الاستخبارات المصرية برئاسة زكريا محيي الدين، ما عكس أهمية الحروب السرية بين عدد من الدول العربية وتل أبيب ودور هذه الأجهزة بغض النظر عن الجواسيس الذين خطّطوا لاختراقات متبادلة

خرج إيلي كوهين من هذه القضية من دون إثبات التهمة عليه. بعد أشهر على إطلاق سراحه، قرّر الانتقال إلى الدولة الإسرائيلية في العام 1955، حيث التحق بالوحدة 13 في الموساد الذي أعاده إلى القاهرة. اعتقل مرة ثانية بعد الاعتداء الثلاثي على مصر في نوفمبر 1956. ولكن اعتقاله لم يدُم طويلاً. بعد إطلاق سراحه، عاد إلى تل أبيب.

مع عودته إلى تل أبيب، لم يلتحق بالموساد، إذ عمل محاسباً في شركة خاصة ثم مترجماً في وزارة الدفاع. أراد أن يتخلى عن هواياته السرية السابقة وتزوج من يهودية من أصول عراقية في العام 1959، لكن الموساد لم يتخلّ عنه وأعاد الاتصال به. لم يتردد. توقع أن يُكلف بمهمة في مصر التي عاش فيها وعرفها، لكن لم يكن هذا خيار الجهاز خصوصاً أنه بات معروفاً ومكشوفاً للاستخبارات هناك. أُبلغ بمهمة في دمشق. لم يعرف التفاصيل في البداية، وقبل المهمة.

بدأت عملية تجنيد إيلي كوهين لهذه المهمة عندما كانت سوريا ضمن دولة الوحدة المصرية السورية برئاسة جمال عبد الناصر، وفي عهد العقيد عبد الحميد السراج رئيس الاستخبارات العامة أو المكتب الثاني في الإقليم السوري الشمالي. وكان يمكن أخذ هذا الأمر في الاعتبار نظراً إلى إشراف الاستخبارات العامة المصرية على مثيلها في سوريا، وكون السراج أميناً على هذا النظام ووفياً لعبد الناصر. على إيلي كوهين أن يصبح كامل أمين تابت، متلبساً الشخصية الجديدة في حياته العملية ويومياته قبل أن يحمل الاسم هوية جديدة له. ولم يكن هذا إلا البداية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى